16 - 05 - 2025

ترنيمة عشق| "عرب الأهواز" المنسيون

ترنيمة عشق|

حال التقيتُ بالمؤرخ الإيراني الكبير د.عبد النّبي القَيّم - والذي يُفضِّل تسميته بالمؤرخ العربي الأهوازي - خلال حوارٍ أجريته معه.. هالني لغتُه العربيّة الفصيحة البليغة، وتتبّعه لأحداث الوطن العربيّ؛ وساعة حدّثني عن أعماله وإسهاماته في الفِكر العربيّ والفارسيّ لم تخلُ عيناه مِن نظراتِ لومٍ وعتابٍ. وما هي إلا أيام حتى حمل لي بريدي الالكترونيّ الخاص رسائل عتابٍ أخرى من بعض العرب الأهواز بإيران؛ فحواها: هل يعرف العرب عنَّا شيئا؟! 

لم أجد بُدًا أمامي إلا الوَعد بالكتابة عنهم؛ فقلمي الذي أغمسه في حبر الروح هو كل ما أملك؛ طالما ارتضيتُ أن يكون "إعادة الوعي" قضيتي حتى المَمات. 

عرب الأهواز أو الأحواز أو "عربستان" أو "خوزستان" باللغة الفارسيّة يقطنون جنوب غرب إيران؛ يتراوح عددهم ما بين خمسة إلى ثمانية ملايين نسمة، منهم كثيرون يعيشون بدول الخليج لأسبابٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ، يعتبرون العالم العربيّ عُمقهم الثقافيّ والحضاريّ، یتابعون أحداثه عن كثب؛ انتصاراته وهزائمه؛ نكساته وتقلباته. 

لمّا قامت بمصر ثورة 1952 عمَّتهم الفرحة، وأطلقوا اسم "عبدالناصر" و"جمال" على أطفالهم، وحين رحلَ حزنوا، ونصبوا له خیمة عزاءٍ في البيوت والأحیاء، وإلى يومنا هذا مازالت صورته باقيةً على جدران قلوبهم وحوائط منازلهم، ولحظة عبور قواتنا المسلحة قناة السّویس واقتحام خط بارلیف هلّلوا وكبّروا وراحوا یوزّعون الحلوى ویتبادلون التهاني والتّبریكات وإطلاق الطلقات الناریة، فقد اعتبروه نصرًا للأمّة العربیّة، ويوم وقّع السّادات اتفاقیة "كامب دیفید" ساد الحزن مَرابِعَهم لتلك الضربة السّاحقة الماحقة -على حد وصفهم- التي نسفتْ مكتسبات النّصر. 

اللهجة الأهوازیّة عربيّة فصيحةٌ تشبه تمامًا لهجة "جنوب العراق"، كما تتطابق عاداتهم وملامحهم وأزياؤهم مع أهل "البَصرة"، وكل بیت أهوازيّ لدیه أهل وأقارب بالعراق أو البحرين أو السعودية، جميعهم مِن أصولٍ عربيّة قُح؛ ينحدرون مِن قبائل عريقة كـ: بني تميم، وطيّ، والخزرج، وربیعة، وبنی كعب.. وغيرهم، وكانت قبائل بكر بن وائل وحنظلة وبني العم تسيطر على الإقليم قبل الفتح الإسلامي بأكثر مِن 400 عام؛ طبقًا لِما دوَّنه المؤرخ الفارسي أحمد كسروي - المعروف بآرائه القومية العنصريّة المعادية للعرب - وعن أصولهم كتبَ بن جرير الطبري والفيروزبادي ومؤرخو الرَّحالة العرب أمثال: المسعودي، والبلاذري، وابن خردادبة، والیعقوبي، وابن حوقل، وأطلق الفرْس على "الأهواز" اسم "عربستان" أي أرض العرب، وحاليًّا "خوزستان" أي أرض أهل الخوز. 

مِن عرب الأهواز كان: الحلّاج؛ وابن المقفّع؛ وجرجس الطبيب ابن بخت يشوع الطّبيب؛ والشاعر عكاشة العمى مِن الشعراء العباسيين؛ وسيبويه إمام النُّحاة؛ وأبو نوّاس أعظم شعراء بغداد في عصره؛ وسهل بن هارون من البلغاء والحكماء؛ وابن السّكيت المعروف بأبي يوسف اللغويّ إمام البلاغة والفصاحة ومعروفة مؤلفاته؛ ويوحنا المعروف بأبي زكريّا الطّبيب العالِم الشّهير؛ وأبو محلم الشيباني المؤرخ الحافظ لوقائع العرب، وسهل التستري مِن أئمة الصّوفيّة وغيرهم كثيرون. 

غزا الفرس الإقليم وتوغلوا حتى القطيف والجزيرة العربية؛ وأعملوا فيها التّقتيل بصورة بشعة؛ وكان العرب آنذاك متفرقين حتى تجمّعوا وهزموهم في معركة "ذي قار"، بينما ظل عرب الأهواز يناضلون بشراسة حتى أيقن الفرس استحالة إخضاعهم، وبعد الفتح الإسلامي بقيادة "أبو موسى الأشعري" تم القضاء نهائيًّا على دولة فارس "الامبراطورية الساسانيّة". 

وكان ساحل الخليج العربي مِلكا للعرب مِن مَصبّ الفرات إلى مَصبّ الإندوس في الهند، ونظرًا لقرب الأهواز مِن الأراضي المُقدَّسة؛ فقد كانوا أول مَن اعتنق الإسلام خارج الجزیرة العربیة، والتحقوا بجُند المسلمین ضد الفرس والمجوس حتی وصلت الجيوش إلی المعركة المصيريّة "نهاوند"، وأبلوا بلاءً حسنًا، فألحقهما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بإقليم البصْرة، وظلّوا هكذا عدة قرون؛ حتى أسَّسوا أول حُكمٍ مستقلٍ بقیادة "محمد بن فلاح" المُلقَّب بـ "المشعشع"، وهیمنوا علی جمیع أراضي الأهواز وشرق دِجلة، ووصلوا الی تخوم بغداد، وحكموا معظم المدن والموانيء والجزر الشّمالیة من الخلیج العربيّ، وبقیت دولتهم طِيلة سبعين عامًا قويّةً؛ حتی ظهور إسماعیل الصفويّ الذي قضی علی استقلالها. 

خلال حكم الدولة المشعشعيّة العربيّة والتي اعترفتْ بها الدولة الصفويّة والعثمانيّة، أضحت الأهواز نقطة تقاطع تجاريّ هام، قامتْ بعدها الدولة الكعبيّة بزعامة الشّيخ "خُزعل الكعبيّ" الذي كان مِن النفوذ والثراء بحیث أنْعم بالكثير علی: الكویت وجنوب العراق وشیوخ الخلیج -الذين كانوا يرزحون وقتئذ تحت نير الاحتلال البريطاني- وهنا یقول "جهاد الخازن": رغم أنّي طالب تاریخ لكنيّ لم أسمع عن الشّیخ "خُزعل" إلا من المغفور له "الشّیخ زايد" حاكم الإمارات حين قال: الشّیخ خُزعل شيخ مشايخ الخليج، كان یُنعم علینا بالمال؛ فی وقتٍ كنَّا فی حال لا نُحسد علیه. 

خشيَتْ بريطانيا قوة خُزعل ونفوذه، فاتفقت مع إيران على إزاحته وضم الإقليم إليها نظرًا لغناه بالنفط والغاز وخصوبة أراضيه التي يخترقها ثلاثة أنهار أهمها: "نهر كارون"، وأدّى اكتشاف البترول فيه إلى تنافس القوى للسّيطرة على أملاك الدولة العثمانيّة المفككة، وقتئذ صعد نجم "رضا خان بهلوي" لسدَّة الحُكم، ولخوف البریطانيين مِن وصول البلاشفة والثورة الشّيوعيّة الی المیاة الدافئة وإلى الهند - كنزهم الثمین - عمَدوا إلى إقامة دیكتاتوریّة عسكریّة قویّة لمواجهة المد الشّیوعي، ومِن ثَمَّ جاؤوا بـ "رضا خان" الذي كان برتبة متواضعة فی الجیش "القاجاريّ"، وبعد تدریبه جعلوه وزیرًا للدفاع ثم رئیسًا للوزراء، وبضغوطٍ من الحكومة السّوفیتيّة التي أخطأت فی تحلیلها لشخصيتة حين حسبته مُمثِّلًا للطبقة البورجوازیّة الإیرانیّة وهي طبقه ثوريّة صاعدة، ساعتها غدرتْ بریطانیا بـ "خزعل"، وسلَّمتْ الحُكم لـ "رضا خان"؛ ومع صمْتِ العرب؛ اعتُقل في طرّادٍ بحريّ، ثم أُخِذ أسیرًا إلی طهران، وبقِی تحت الإقامة الجبریّة مدة عشر سنوات حتى اغتاله رضا خان عام 1935. 

1925 دخل الجيش الإيرانيّ مدينة "المحمرة"، وأسقطت آخر حكام العرب الكعبيين، واحتلّت الأهواز. بحسب التقارير فإن الموارد المتواجدة بالإقليم وحده تساهم بنصف الناتج القوميّ الإيرانيّ؛ و85 بالمائة من البترول الإيراني، 35 بالمائة من المياه حيث تجري به 3 أنهار، ويُعد من أخصب الأراضي بمحاصيله الاستراتيجيّة الهامّة، ومع ذلك تَحرمه إيران من خيراته، فأصبح: "أفقر شعب يسكن أغنى أرض" على حد وصْف العرب أصحاب الإقليم، وعنه قال الرئيس الإيرانيّ محمد خاتميّ: "إيران باخوزستان زنده إست"، يعني: إيران تحيا بخوزستان". 

على قدَمٍ وساقٍ يقوم الاحتلال الإيرانيّ بتغيير الأسماء العربيّة بالإقليم إلى أخرى فارسيّة، ويعمل على زيادة نسبة غير العرب، حتى مدينة "المحمرة" أسْمتها "خرمشهر" أي الأرض الخصبة، ويعانى السّكان مِن صنوف القهر والظلم الاجتماعي والقمع على يد الحكومات المتعاقبة، ويتم معاملتهم كمواطنين مِن الدرجة الثانية، لكن الحكومة تنفي هذه الاتهامات حتى لا تدخل في صراعات أخرى مع العديد من العرقيات التي تقطنها: كالأكراد والبلوش والأتراك والأذريين. 

وقد شهد الإقليم اضطرابات واسعة عام 2006 بسبب محاولة إيران الحدّ من نفوذ العرب بالإقليم، وتعديل التركيبة السّكانيّة، والتهجير الجماعيّ، واغتصاب الأراضي - كما يفعل الصهاينة في فلسطين - وإقامة مستوطنات فارسيّة، واتهمت بريطانيا بأنّها وراء تلك الاضطرابات لتأجيج النزعة العرقيّة. 

"عرب الأحواز" أصحاب قضيّة منسيّة عربيًّا ودوليًّا مذ نحو تسعة عقود، يعانون من الاضطهاد القوميّ للقضاء على الهويّة والثقافة واللغة وغلق المراكز الثقافية. ومع انتشار لغة عدائيّة تجاههم في وسائل الإعلام الإيرانيّة، فالأُسَر تستجلب المدرّسين لتعليم أبنائها اللّغة والثقافة العربيّة لتترسخ فيهم قبل الدّخول للمدرسة، وافتضاح هذا الأمر يجعلهم يتعرضون للمساءلة القانونيّة والتي تصل في بعض الأحيان إلى الإعدام! 

ومع غلاء المعيشة المُتعمّد مِن قِبل الدولة الإيرانيّة يكدُّ الأهالي لتوفير لقمة العيش كي ينشغلوا عن المطالبة بحقوقهم أو تعليم أولادهم، كما تقوم الحكومة بتسهيل نشر المخدرات والبطالة والجريمة، مما أدى إلى فشل الكثيرين في التعليم، وإجبار الأطفال على تعلم الفارسيّة ممّا يؤدي إلى تركهم الدّراسة من أول شهرين، وحين يقوم بعض النّشطاء بالمطالبة بحقوقهم يتم خطفهم واعتقالهم في معتقلات سرّية؛ واستصدار أحكام إعدام ضدهم، وتهديد عوائلهم، لذا فكثيرًا مايردّد أهل الإقليم مقولتهم الشهيرة: "الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الصفوي للأحواز وجهان لعملة واحدة". 

الأدب الفارسيّ وثيق الصلة بالعربیّة؛ فمعظم تراثه مكتوبٌ بها، وكذا جميع مصطلحات عِلم القانون، ولایمكن لدارِسي الأدب والقانون الاستغناء عنها، وأكثر من 60 بالمائة مِن اللغة الفارسیّة عربیّة أو مِن جذور عربیّة، وفی عهد "البهلوي" الأب والابن الذي كان نظامهما شوفینیًّا عنصريًّا معاديًا للعرب؛ كان تدريس العربیّة يلي الفارسيّة ترتيبًا، تليهما الإنجلیزیّة بالمرتبة الثالثة في المرحلة الثانوية، ولكن بعد ثورة 1979 وسقوط البهلوي ارتقت مكانتها، وأصبحتْ مِن المواد المؤهلة لدخول الجامعة. 

رغم الصعوبات والأهوال التي يعانون منها؛ فقد شرع مثقفو الأهواز في ترجمة الشِّعر العربيّ إلی الفارسیّة مذ سبعینیات القرن المُنصرم، فترجموا أشعار محمود درویش، وعبدالوهاب البیاتي، ونزار قبّاني، ومحمد الفیتوري، وأدونیس، وغادة السّمان وغیرهم، وعرَّفوهم للجمهور الفارسيّ، ?ما ترجموا بعض روایات وقصص نجیب محفوظ، وحنّا مینا، وغسّان كنفانيّ، وأحلام مستغانمي، وكذا بعض كتب المفكرین العرب أمثال: محمد عابد الجابريّ، نصر حامد أبو زید، عبدالله بلقزیز، محمد أركون، هشام شرابيّ، برهان غلیون. 

المفارقة اللطیفة أن جُل مترجمي عرب الأهواز لم یتعلموا اللغة العربیّة في المدارس أو الجامعات، بل تعلَّموها مِن الأُسرة في المقام الأول، تليها من قراءة الكتب والمقالات العربية. 

لیس كل الأهوازيين یتكلمون الفارسية، فهناك كثیرون لا یستعملونها مطْلقًا؛ خاصةً كبار السّن مِن الشّیوخ والعجائز، وممّن لیست لدیه علاقات یومیّة مع الفُرس، لكن بما أن التعلیم ولغة الدوائر الحكوميّة بالفارسيّة؛ فقد اضطر الكثیرون لتعلّمها، وقد حاول نظام الشّاه "تفریس" عرب الأهواز من خلال التعلیم الممنهج بالمدارس والجامعات، وعدم السّماح لهم بالدّراسة باللّغة الأم وإرغامهم على التّكلم بالفارسیّة، والعمل على ازدراء وتحقیر العنصر العربيّ، لكنّهم يواصلون تصدیهم لهذه الهجمة الشّرسة، وقَدّموا الغالي والثّمین من أجل الحفاظ علی هویتنهم ولغتهم، ورغم النّجاح الضئیل لخطة "التّفریس" في زمن الشّاه إلا أنَّ الرّغبة عارمة عند الشّعب - خاصة المثقفین والمتعلمین - للحفاظ علی اللغة والحیلولة دون طمس هویتهم العربیّة. 

حين تسأل مثقفيهم ماذا تحتاجون؟ بتواضعٍ وخجلٍ شديدين يجيبون: نحتاج توطید أواصر المحبة والأخوة العربيّة؛ من خلال نشر منتجات مبدعينا وأعمالنا الثقافیة والعلمية مِن: كتبٍ؛ ومقالات؛ و دواوین شِعر؛ وأفلامٍ؛ ومسرحیّاتٍ؛ وأغانٍ، ومشار?ة كتّابى العرب ومفكريهم وفنانيهم في النّدوات والمؤتمرات العلمیة والثفافیّة والأدبیّة لأجل خَلْق حلقة تواصل بيننا وبينكم. 

وحين أسألهم وماذا عن صراعكم السياسيّ مع إيران؟ تجيب أعينهم وهي تفيضُ بالحزن والأسى: وماذا تستطيع العرب أن تقدم لنا وحالهم لا يخفى على أحدٍ؟!
 ----------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة